الجمعة ، 17 جمادى الأول ، 1445

الجمعة ، 17 جمادى الأول ، 1445

قراءة في بردة البوصيري (ربيع الشعر)

شعر ونقد

نعم..  يزهر الشعر في ربيع الميلاد الأعظم ليلبس كما يكتسي كل الكون ابتهاجا بالرحمة والحب والنور والبركات حلة الجمال في أعظم كرنفال  

وكيف لا يكون ذلك وبمقدمه المبارك تجلت ظلمات الجهالة وأشرق نور الله ليملأ جنبات الكون محبة وضياء ويملأ حواس المؤمنين والمؤمنات ثقة بالله وامتثالا لتوجيهاته وشكرا لعطاياه التي لا تعد ولا تحصى

وفي واحدة من روائع العشق المحمدي الخالد انبرى شاعر هام حبا بالرسول الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو البوصيري الذي استهل قصيدته بما استهل به كعب بن زهير بردته الشهيرة
فأخذ يشرح حال واله متيم
يسيطر طيف المحبوب على كل مشاعره فسال دمعه لعله يغسل غبار الحنين 
 . 

(أمنْ تذكر جيرانٍ بذى ســــلمٍ
 مزجْتَ دمعا جَرَى من مقلةٍ بـــدمِ)
..
..

وحتى هبوب الرياح ٠من تلقاء أرض المعشوق تحمل البشارة
..
(أم هبَّتِ الريحُ مِنْ تلقاءِ كاظمـــةٍ
 وأَومض البرق في الظَّلْماءِ من إِضـمِ)

ومن يقدر على منع عيني مدنف 
أو الحد من اضطراب فؤاده

(فما لعينيك إن قلت اكْفُفا هَمَتــا وما لقلبك إن قلت استفق يهــــمِ)

وهيهات هيهات أن يجد طريقا للكتمان وإخفاء ما يعتلج صدره

(أيحسب الصبُ أنّ الحب منكتـــمٌ 
ما بين منسجم منه ومضْطَّــــــرمِ)

ولولا سطوة الأشواق ما همى دمع ولا تمكن الأرق من الجفون

(لولا الهوى لم ترق دمعاً على طـللٍ 
ولا أرقْتَ لذكر البانِ والعَلــــمِ)

وما الدمع والسقم إلا دليلان وشاهدان لا سبيل إلى دحض شهادتهما

(فكيف تنكر حباً بعد ما شــهدتْ به عليك عدول الدمع والســــقمِ)

وها هو الوجد يرسم بالألوان لوحة بديعة يجتمع فيها الزهر الأصفر مع تمر صبغته لفحة الاشتياق باللون الأحمر

(وأثبت الوجدُ خطَّيْ عبرةٍ وضــنىً
 مثل البهار على خديك والعنــــمِ)

ثم يستمر في سرد تغلغل الحنين وسطوته

(نعمْ سرى طيفُ منْ أهوى فأرقـني
 والحب يعترض اللذات بالألــــمِ

يا لائمي في الهوى العذري معذرة مني إليك ولو أنصفت لم تلــــمِ

عَدتْكَ حالِيَ لا سِرِّي بمســـــتترٍ عن الوشاة ولا دائي بمنحســــمِ

محضْتني النصح لكن لست أســمعهُ 
إن المحب عن العذال في صــممِ)

ثم ينتقل كعادة الشعراء العرب قديما إلى غرض آخر من أغراض الشعر يظهر فيه حكيما ناصحا

(إنى اتهمت نصيحَ الشيب في عذَلٍ
 والشيبُ أبعدُ في نصح عن التهــم

جفإنَّ أمَارتي بالسوءِ ما أتعظـــتْ من جهلها بنذير الشيب والهـــرمِ

ولا أعدّتْ من الفعل الجميل قـرى ضيفٍ ألمّ برأسي غيرَ محتشـــم

لو كنتُ أعلم أني ما أوقـــرُه كتمتُ سراً بدا لي منه بالكتــمِ

منْ لي بردِّ جماحٍ من غوايتهـــا كما يُردُّ جماحُ الخيلِ باللُّجُــــمِ

فلا ترمْ بالمعاصي كسرَ شهوتهـــا إنَّ الطعام يقوي شهوةَ النَّهـــمِ

والنفسُ كالطفل إن تُهْملهُ شبَّ على 
حب الرضاعِ وإن تفطمهُ ينفطــمِ

فاصرفْ هواها وحاذر أن تُوَليَــهُ إن الهوى ما تولَّى يُصْمِ أو يَصِـمِ

وراعها وهي في الأعمالِ ســائمةٌ وإنْ هي استحلتِ المرعى فلا تُسِمِ

كمْ حسنتْ لذةً للمرءِ قاتلــةً 
مـن حيث لم يدرِ أنَّ السم فى الدسـمِ

واخش الدسائس من جوعٍ ومن شبع 
فرب مخمصةٍ شر من التخـــــمِ

واستفرغ الدمع من عين قد امتلأتْ 
من المحارم والزمْ حمية النـــدمِ

وخالف النفس والشيطان واعصِهِما 
وإنْ هما محضاك النصح فاتَّهِـــمِ

ولا تطعْ منهما خصماً ولا حكمـــاً فأنت تعرفُ كيدَ الخصم والحكــمِ

أستغفرُ الله من قولٍ بلا عمــــلٍ لقد نسبتُ به نسلاً لذي عُقـــــُمِ

أمْرتُك الخيرَ لكنْ ما ائتمرْتُ بـه وما اسـتقمتُ فما قولى لك استقـمِ

ولا تزودتُ قبل الموت نافلـــةً ولم أصلِّ سوى فرضٍ ولم اصــــمِ)

ومن خلال حديثه عن تقصيره ولومه لنفسه على إرشاد غيره مع تقصيره وتفريطه فتح الشاعر لنفسه دربا ليلج باب النور والنجاة في حضرة سيد البشر خاتم النبيين وإمام المرسلين صلى الله عليه وعلى آله

فهاهو صلوات الله عليه وعلى آله يقوم ليله حتى تفطرت قدماه الشريفتين ويحتمل الجوع والمتاعب شاكرا حامدا راضيا جذلا بأن كل ذلك في سبيل الله سبحانه وتعالى

(ظلمتُ سنَّةَ منْ أحيا الظلام إلـــى إنِ اشتكتْ قدماه الضرَ من ورمِ
وشدَّ من سغبٍ أحشاءه وطـــوى
 تحت الحجارة كشْحاً مترف الأدمِ)


ولم يتزحزح قيد أنملة تحت وطأة المغريات
وراودتْه الجبالُ الشمُ من ذهــبٍ
 عن نفسه فأراها أيما شــــممِ
وأكدتْ زهده فيها ضرورتُـــه إنَّ الضرورة لا تعدو على العِصَمِ
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورةُ منْ 
لولاه لم تُخْرجِ الدنيا من العـدمِ)


إنه سيد الأكوان وخير بني الإنسان 
..

(محمد سيد الكونين والثقليــــن والفريقين من عُرْب ومنْ عجــمِ)

(نبينا الآمرُ الناهي فلا أحــــدٌ أبرَّ في قولِ لا منه ولا نعــــمِ)

..

فهو شفيع الصادقين ليرفع الله عنهم تبعات العناء وهم يتحركون بجد لإعلاء كلمة الله بعيدا عن العقائد الباطلة التي تفتري على الله ورسوله الكذب بادعاء شفاعته للظالمين والمجرمين يوم القيامة 
(هو الحبيب الذي ترجى شفاعـته لكل هولٍ من الأهوال مقتحـــمِ
دعا إلى الله فالمستمسكون بــه مستمسكون بحبلٍ غير منفصـــمِ)
..
وهو دوما في طليعة المجاهدين الجادين أنبياء الله الكرام الذين لهم كل الفضل في إقامة دين الله الإسلام في كل عصر وأوان منذ بدء خلق آدم عليه السلام وحتى نهاية هذه الحياة الدنيا 
..

(فاق النبيين في خَلقٍ وفي خُلـُقٍ ولم يدانوه في علمٍ ولا كـــرمِ

وكلهم من رسول الله ملتمـــسٌ غرفاً من البحر أو رشفاً من الديمِ

وواقفون لديه عند حدهــــم 
من نقطة العلم أو من شكلة الحكمِ

فهو الذي تم معناه وصورتــه 
ثم اصطفاه حبيباً بارئُ النســـمِ

منزهٌ عن شريكٍ في محاســـنه فجوهر الحسن فيه غير منقســـمِ

دعْ ما ادعتْهُ النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم

وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف
 وانسب إلى قدره ما شئت من عظمِ

فإن فضل رسول الله ليس لــــه حدٌّ فيعرب عنه ناطقٌ بفــــــمِ

لو ناسبت قدرَه آياتُه عظمــــاً أحيا اسمُه حين يدعى دارسَ الرممِ)
..
ومن جماله وكماله صلى الله عليه وعلى آله التزامه قولا وفعلا بالوحي بحيث لم يأت بشيء مخالف لفطرة الإنسان
..

(لم يمتحنا بما تعيا العقولُ بـــه حرصاً علينا فلم نرْتبْ ولم نهـــمِ)
..

ثم يستطرد الشاعر في جلال الوصف معرجا على فرادة وسمو حضرة الرسول الأعظم صلوات الله عليه وعلى آله 
..

(أعيا الورى فهمُ معناه فليس يُرى في القرب والبعد فيه غير مُنْفحـمِ

كالشمس تظهر للعينين من بعُـدٍ صغيرةً وتُكلُّ الطرفَ من أمَـــمِ

وكيف يُدْرِكُ في الدنيا حقيقتـَه قومٌ نيامٌ تسلوا عنه بالحُلُــــــمِ

فمبلغ العلمِ فيه أنه بشــــــرٌ
 وأنه خيرُ خلقِ الله كلهــــــمِ

وكلُ آيٍ أتى الرسل الكرام بها فإنما اتصلتْ من نوره بهــــمِ

فإنه شمسُ فضلٍ هم كواكبُهــا
 يُظْهِرنَ أنوارَها للناس في الظُلـمِ

أكرمْ بخَلْق نبيّ زانه خُلـُـــقٌ بالحسن مشتملٍ بالبشر متَّســـــمِ

كالزهر في ترفٍ والبدر في شرفٍ والبحر في كرمٍ والدهر في هِمَمِ

كانه وهو فردٌ من جلالتــــه
 في عسكرٍ حين تلقاه وفي حشـمِ

كأنما اللؤلؤ المكنون فى صدفٍ من معْدِنَي منطقٍ منه ومُبْتَســم

لا طيبَ يعدلُ تُرباً ضم أعظُمَـــهُ طوبى لمنتشقٍ منه وملتثـــــم)
..
ويا لروعة المشهد وآيات الله تتجلى في صفحات هذا الكون لتعلن للعالمين عن ميلاد عظيم ينبئ عن عصر جديد يدشن فيه خير خلق الله عصر اندثار الخرافات والضلالات ويحمل مشعل الحق والنور والإنصاف وكل القيم السامية
..

(أبان مولدُه عن طيب عنصــره يا طيبَ مبتدأٍ منه ومختتــــمِ

يومٌ تفرَّس فيه الفرس أنهــــمُ 
قد أُنْذِروا بحلول البؤْس والنقـمِ

وبات إيوان كسرى وهو منصدعٌ كشملِ أصحاب كسرى غير ملتئـمِ

والنار خامدةُ الأنفاسِ من أسـفٍ عليه والنهرُ ساهي العينِ من سدمِ

وساءَ ساوة أنْ غاضت بحيرتُهــا ورُدَّ واردُها بالغيظ حين ظمــي

كأنّ بالنار ما بالماء من بــــلل حزْناً وبالماء ما بالنار من ضَــرمِ

والجنُ تهتفُ والأنوار ساطعــةٌ والحق يظهرُ من معنىً ومن كَلِـمِ

عَمُوا وصمُّوا فإعلانُ البشائر لــمْ تُسمعْ وبارقةُ الإنذار لم تُشــــَمِ

من بعد ما أخبر الأقوامَ كاهِنُهُمْ بأن دينَهم المعوجَّ لم يقـــــمِ

وبعد ما عاينوا في الأفق من شُهُب 
منقضّةٍ وفق ما في الأرض من صنمِ)
..
ثم يتوج الوحي الشريف رأس الحياة لينهزم كل دعاة الباطل 
..

حتى غدا عن طريق الوحي منهزمٌ 
من الشياطين يقفو إثر مُنـــهزمِ

كأنهم هرباً أبطالُ أبرهــــــةٍ
 أو عسكرٌ بالحَصَى من راحتيه رُمِىِ

نبذاً به بعد تسبيحٍ ببطنهمـــــا 
نبذَ المسبِّح من أحشاءِ ملتقــــمِ

جاءتْ لدعوته الأشجارُ ســـاجدةً تمشى إليه على ساقٍ بلا قــــدمِ

كأنَّما سَطَرتْ سطراً لما كتـــبتْ فروعُها من بديعِ الخطِّ في اللّقَـمِ

مثلَ الغمامة أنَّى سار سائــــرةً تقيه حرَّ وطيسٍ للهجير حَــــمِى

أقسمْتُ بالقمر المنشق إنّ لـــه 
من قلبه نسبةً مبرورة القســــمِ

وما حوى الغار من خير ومن كرمٍ وكلُ طرفٍ من الكفار عنه عـمـِى

فالصِّدْقُ في الغار والصِّدِّيقُ لم يَرِما
 وهم يقولون ما بالغـار مــن أرمِ

ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على
 خير البرية لم تنسُج ولم تحُــــمِ

وقايةُ الله أغنتْ عن مضاعفـــةٍ من الدروع وعن عالٍ من الأطـُمِ

ما سامنى الدهرُ ضيماً واستجرتُ به
 إلا ونلتُ جواراً منه لم يُضَــــمِ

ولا التمستُ غنى الدارين من يده إلا استلمت الندى من خير مستلمِ

لا تُنكرِ الوحيَ من رؤياهُ إنّ لــه قلباً إذا نامتِ العينان لم يَنَـــم)
..
ويختم الشاعر المحب قصيدته بتأكيد أن رؤياه شرف وإلهام من الله لا يملك إنكارها أحد
.

(وذاك حين بلوغٍ من نبوتــــه فليس يُنكرُ فيه حالُ مُحتلــــمِ)

..
ومن صور الجمال التي تبعث على الدهشة قوله:
 . 
 مزجْتَ دمعا جَرَى من مقلةٍ بـــدمِ
..

(فما لعينيك إن قلت اكْفُفا هَمَتــا وما لقلبك إن قلت استفق يهــــمِ)
..
(فكيف تنكر حباً بعد ما شــهدتْ به عليك عدول الدمع والســــقمِ)
..
(وأثبت الوجدُ خطَّيْ عبرةٍ وضــنىً مثل البهار على خديك والعنــــمِ)
..
نعم سرى طيف من أهوى فأرقني 
..
 إن المحب عن العذال في صــممِ
..
إنى اتهمت نصيحَ الشيب في عذَلٍ
 والشيبُ أبعدُ في نصح عن التهــم
..
منْ لي بردِّ جماحٍ من غوايتهـــا
..
فلا ترمْ بالمعاصي كسرَ شهوتهـــا 
..
والنفسُ كالطفل إن تُهْملهُ شبَّ على
 حب الرضاعِ وإن تفطمهُ ينفطــمِ

..

 وإنْ هي استحلتِ المرعى فلا تُسِمِ
..
كمْ حسنتْ لذةً للمرءِ قاتلــةً 
مـن حيث لم يدرِ أنَّ السم فى الدسـمِ
..
واخش الدسائس من جوعٍ ومن شبع
..
واستفرغ الدمع من عين قد امتلأتْ 
من المحارم والزمْ حمية النـــدمِ
ولا تطعْ منهما خصماً ولا حكمـــاً
..
 لقد نسبتُ به نسلاً لذي عُقـــــُمِ
..


وراودتْه الجبالُ الشمُ من ذهــبٍ
 عن نفسه فأراها أيما شــــممِ
..

دعا إلى الله فالمستمسكون بــه مستمسكون بحبلٍ غير منفصـــمِ
..
وكلهم من رسول الله ملتمـــسٌ غرفاً من البحر أو رشفاً من الديمِ

..
واقفون لديه عند حدهــــم

فهو الذي تم معناه وصورته
..


فإنه شمسُ فضلٍ هم كواكبُها
يُظْهِرنَ أنوارَها للناس في الظلم
..
كانه وهو فردٌ من جلالتــــه
 في عسكرٍ حين تلقاه وفي حشـمِ 
..
أبان مولدُه عن طيب عنصــره 
يا طيبَ مبتدأٍ منه ومختتــــمِ
..

والنار خامدةُ الأنفاسِ من أسـفٍ عليه والنهرُ ساهي العينِ من سدمِ
..
كأنّ بالنار ما بالماء من بــــلل حزْناً وبالماء ما بالنار من ضَــرمِ
..


حتى غدا عن طريق الوحي منهزمٌ
 من الشياطين يقفو إثر مُنـــهزمِ
..

كأنهم هرباً أبطالُ أبرهــــــةٍ 
أو عسكرٌ بالحَصَى من راحتيه رُمِىِ

 تمشى إليه على ساقٍ بلا قــــدمِ
..
 إنّ لــه قلباً إذا نامتِ العينان لم يَنَـــم

..

وهكذا يجد من يبادر بإعلان حبه وولائه لرسول الله صلوات الله عليه وعلى آله مددا خفيا يكسو المفردات هيبة وجمالا 


وكلما تمادى الآخرون في محاولاتهم طمس ذكراه سنحييه في قلوبنا وواقعنا قولا وفعلا وإحساسا حتى ننال به الحياة فوالله إننا لفي أمس الحاجة إلى العودة الصادقة إلى مشروعه القرآني العظيم لنحظى بالشرف والعزة والكرامة.